سورة السجدة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
{الم} مبتدأ. وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} خبر محذوف، لمبتدأ آخر، دل عليه ما قبله، والجملة من المبتدأ المقدّر وخبره، خبر {الم}.
وتقدير هذا: {الم} ذلك {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} أي على هذا الأسلوب نزل كتاب اللّه.. مجملا ومفصلا، محكما ومتشابها.
فألف، لام، ميم.. حروف مفصلة، و{الم} كلمة واحدة.
وألف، لام، ميم، محكمة، إذ لكل حرف منها دلالته.. و{الم} متشابهة، إذ لا يعلم تأويلها في هذه الصورة المركبة، إلا اللّه، والراسخون في العلم.
ومعنى {تنزيل} أي النزول الذي نزل القرآن على صفته من رب العالمين.
وقوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} جملة حالية، من الكتاب.. وهى بمنزلة الصفة للكتاب، بمعنى أن الكتاب الذي نزل من عند اللّه، {لا رَيْبَ فِيهِ}.
أي ليس فيه موضع لريبة أو شكّ، لأنه الحق الذي لا شبهة فيه.. ويجوز أن يكون معنى {لا ريب فيه} نفى الريب والشك عن نزوله من اللّه، أي لا ريب في أنه نزل من عند اللّه.
وقوله تعالى: {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} متعلق بقوله تعالى: {تَنْزِيلُ} أي أن ذلك الكتاب منزل من رب العالمين.. وكفى بإضافته إلى اللّه سبحانه وتعالى، جلالا وشرفا لهذا الكتاب.. وفي إضافته إلى {رب العالمين} إشارة إلى ما يحمل إلى الناس جميعا من فضل ربهم وإحسانه إليهم، فهو- سبحانه- الرب، وهم المربوبون له، المنشّئون في ظل رعايته.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
الضمير في {يقولون} يعود إلى المشركين، وهم وإن لم يجر لهم ذكر، مذكورون في هذا المقام، الذي لا يرى فيه غير أهل الشرك والضلال والعناد، الذين ينكرون الحق، ويمارون فيه.
وفي قوله تعالى: {افْتَراهُ} عدول من الخطاب إلى الغيبة، وهذا على غير ما يقتضيه النظم، إذ كان قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} خطابا للنبى، لأن القرآن كله خطاب من ربه إليه، ثم ما جاء بعد ذلك في قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} يقضى بأن يكون مقام النبي هنا مقام حضور، لا مقام غيبة.
والسؤال هنا: ما سر هذا الاختلاف في النظم؟ ولم خوطب النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- خطاب غيبة في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ}؟ ولم لم يجر الخطاب على هذا النسق في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ..؟}.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أنه لما كان الافتراء، مما لا يليق بمقام النبوة، ولا يصح أن يطوف بحماها، فقد كان إكرام اللّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، وإحسانه إليه، ورفعه لقدره، أن عزل سمعه عن أن يواجه بهذا المكروه من القول الذي يقوله المشركون فيه، وحتى أنهم وإن أرادوا النبي به، فإنما هو مصروف عنه إلى غيره، ممن يصح أن يكون منه افتراء.. وهذا- فوق أنه تكريم للنبى، وإعلاء لقدره- هو أدب سماوى، وإعجاز قرآنى، في تصوير الوقع، وضبطه على أحكم ميزان، وأعدله، وأقومه.
أما حين يكون الأمر مما يخص النبي، ويتعلق برسالته، ويحقق صفته، فإنه يكون من مقتضى الحال أن يواجه النبي بالخطاب، وأن يتلقى ما يخاطب به في مشهد وحضور، فذلك أرضى لنفسه، وأهنأ لقلبه.. ولهذا جاء قوله تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} هو إنكار لتلك المقولة المنكرة التي يقولها المشركون في كتاب اللّه.. فهم في هذه القولة، يرتكبون جنايتين:
أولاهما: اتهام النبي بالكذب والافتراء.. وهم على علم بأنهم كاذبون مفترون، إذ أنهم يعرفون صدق هذا النبي، الذي لم يعرف الكذب في حياته، ولم يجربوا عليه كذبة منذ عرفوه، صببا، وشابا، وكهلا.. وثانيتهما: أنهم يفترون الكذب على هذا الكتاب، وهم يرون بأعينهم آيات الحق مشرقة في كل كلمة من كلماته، ومع كل آية من آياته! فلو أنهم اتهموا النبي لردّهم عن هذا ما رأوا من صدق الكتاب نفسه، ولو أنهم اتهموا الكتاب لصدّهم عن ذلك ما عرفوا من صدق النبي.. ولكنه العناد الذي يورد أهله موارد الضلال، ويرمى بهم في مواطن السوء.
وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}.
إضراب على مقولتهم تلك، واعتبارها من لغو الكلام، وسقط القول، وإزالة هذا القول المنكر من هذا المقام، وإقامة الحق مقامه.. {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}.
وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} يتعلق بقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي أن هذا الكتاب المنزل من ربك بالحق، إنما أنزل إليك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.. والقوم هنا هم قوم النبي.. وفي ذكرهم هذا الذكر المنكر {قوما} بدلا من إضافتهم إلى النبي هكذا: {لتنذر قومك}.
إشارة إلى أنهم كانوا على حال من الضلال والضياع، بحيث كادت تذهب معالمهم، وتضيع إنسانيتهم، وفي هذا ما يدعوهم إلى النظر إلى أنفسهم، وإلى البحث عن وجودهم الضائع، حتى يجدوه في ضوء هذا النور المرسل إليهم.
وقوله تعالى: {ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ}.
إشارة إلى أن هؤلاء المشركين لم يأتهم نبى قبل هذا النبي يحمل كتابا من عند اللّه، يدعوهم به إلى دين اللّه.. وليس يرد على هذا ما كان من مقام إبراهيم وإسماعيل في هؤلاء القوم، وما كان لآبائهم الأولين من اتصال بهذين النبيين الكريمين، ومن الإيمان بهما، والأخذ عن شريعتهما، وذلك لأمرين:
أولهما: أن إبراهيم عليه السلام- لم يلقهم لقاء مباشرا، ولم يكن من شأنه معهم أن يبشر فيهم بشريعته، وإنما أقام البيت الحرام، مع إسماعيل، وترك لإسماعيل مهمة القيام على هذا البيت، ودعوة من يلمّون به، إلى الإيمان باللّه، والأخذ بشريعة أبيه إبراهيم.. وقد كان من هذا أن تابع إسماعيل على شريعة أبيه، كثير من العرب، وعبدوا اللّه حنفاء مخلصين له الدين.
وثانيهما: أنه لما طال العهد بهؤلاء القوم، تفلتوا من شريعة إبراهيم شيئا فشيئا، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ظلال باهتة، وإلّا رسوم دارسة، وحتى لقد زحف الشرك على موطن الإيمان، وأجلاه من مواقعه، وأصبح بيت اللّه مجمعا لآلهة الضلال التي جلبوها إليه، من أصنام وأنداد.
وعلى هذا تكون رسالة إسماعيل إلى العرب، رسالة قاصرة، محدودة الزمن، قد أدت دورها في فترة، لم تتجاوز جيلا أو جيلين، ثم غربت شمسها، إذ لم يكن وراءها كتاب، يقوم في القوم مقام الرسول بعد موته.
وبهذا يكون المراد بالقوم في قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} هم هؤلاء المخاطبون من المشركين، ويدخل معهم في هذا الخطاب آباؤهم الأقربون، إذ لو كان قد جاء إلى آبائهم الأقربين رسول، لكانوا محسوبين مع آبائهم هؤلاء، داخلين في دعوة الرسول الذي لقى آباءهم.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ} [6: يس].
وفي قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
إطماع لهؤلاء المنذرين في الاهتداء إلى اللّه، وانتفاع بهذا الكتاب الذي يتلى عليهم، وأنه كتاب يرجى منه الهدى لكثير منهم، الأمر الذي تحقق فيما بعد، فآمن كثير منهم به، ودخلوا في دين اللّه أفواجا..!
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}.
هذا من بعض ما يحمل الكتاب من نذر ينذر بها الرسول قومه.
ففى هذا النذير إلفات إلى قدرة اللّه، وإلى سلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض، وقام بسلطان قدرته عليها، وعلى تصريف كل شيء فيهما.. فليؤمنوا إذن بهذا الإله المتفرد بالألوهة، وليتركوا ما هم عاكفون عليه من أصنام.. فإن لم يفعلوا أخذهم اللّه بعذابه الذي لا يدفعه عنهم {ولىّ} أي قريب أو حليف، ولا يشفع لهم من بأس اللّه {شفيع} من تلك المعبودات التي يعبدونها من دونه، ليقربوهم إلى اللّه زلفى.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.
قد عرضنا لتفسيره من قبل، في غير موضع، وقلنا إنه ليس المراد بالستة الأيام هنا اشتغال اللّه سبحانه وتعالى بعملية الخلق طوال هذه المدة، كما فهم ذلك كثير من المفسرين، نقلا عن التوراة، وما جاء في أول سفر التكوين منها، من أن اللّه خلق المخلوقات في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع.
تقول التوراة: فى البدء خلق اللّه السماوات والأرض...
ثم تقول وهى تعرض ما خلق اللّه في السموات والأرض: وكان مساء وكان صباح.. يوما واحدا.. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا وكان مساء.. وكان صباح يوما ثالثا.. وهكذا إلى اليوم السادس، ثم تقول: فأكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ اللّه في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل!! وهذا فهم خاطئ لقدرة اللّه، وتحديد لتلك القدرة، ومقايسة لها بقدرة المخلوقين، حتى إنه سبحانه- ليعمل في كل يوم عملا، ثم يستريح بعد أن يعمل، وحتى لكأنّ العمل قد أجهده وأتعبه.. وتعالى اللّه عما يقول الضالون علوا كبيرا.. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس].
وقد قلنا إن هذه الأيام، هى العمر الذي نضج في بوتقته خلق السموات والأرض، تماما كما يتخلّق كل مخلوق في زمن محدد.. من النطفة إلى الوليد، ومن البذرة إلى الثمرة.. فلكل جنين زمن يتم فيه تكوينه، ولكل ثمرة وقت تبلغ به تمامها ونضجها.. وهكذا كل مخلوق مما خلق اللّه!.
أما حصر الخلق في الستة الأيام هذه، فذلك شأن من شئون اللّه في خلقه، لا يسأل عما يفعل.. {يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ} [68: القصص].
وفي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} ما يسأل عنه: ألم يكن اللّه سبحانه وتعالى عرش يستوى عليه قبل أن يخلق السموات والأرض؟ ألم يكن هناك سلطان للّه قبل أن يخلق ما خلق؟.
ومع أن هذا التساؤل لا محل له، لأنه مما يتعلق بذات اللّه، ومما لا تناله العقول، ولا تدركه الأفهام.. فالسؤال شطط، والجواب عنه إمعان في هذا الشطط- مع هذا، فإننا لكى نرضى هذا التطلع والفضول منا، نقول: إن سلطان اللّه قائم أبدا، وجد هذا الوجود أم لم يوجد.. فالعلم، والقدرة، والحكمة، والسمع، والبصر، وغير ذلك من صفات اللّه، هى صفات أزلية قائمة بالذات، سواء ظهرت آثارها أو لم تظهر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [50: طه].. فهداية اللّه للمخلوقات قائمة قبل الخلق، ولكنها تتجلى حين يظهر المخلوق، ويأخذ الانجاه الذي توجهه قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته إليه.
ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [40: الروم].
فهذا الخلق، ثم الرزق، ثم الإماتة، ثم الإحياء، كلها واقعة في علم اللّه، مقدورة لقدرته، ولكنها تتجلى في كل مخلوق، حالا بعد حال، وزمنا بعد زمن، حسب علم اللّه وتقديره.
واستواء اللّه سبحانه وتعالى على العرش، هو تجلّيه سبحانه على هذه المخلوقات التي خلقها، وإجراؤها على النظام الذي قدره لها.
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
تدبير الأمر، قضاؤه، والأمر بإنفاذه.
والمراد بالسماء هنا، الإشارة إلى متنزل هذا الأمر المدبر، وهو أنه من سلطان عال متمكن.
والمراد بالأرض: الإشارة إلى ما يقضى به اللّه في شأن الناس، وما يتصل بعالمهم الأرضى، إذ كانوا هم المخاطبين بهذا، والمدعوين إلى النظر فيه، وتلقّى العبرة منه.
وعروج الأمر إلى اللّه، هو الرجوع إليه، بعد أن يقع على الصورة التي أرادها، فيعلمه سبحانه على الصورة التي وقع عليها، وهذا العلم ليس حادثا، بل هو علم قديم، لأمور حادثة.. فكل الأمور تصدر عن اللّه، ثم تعود إليه، بعد أن تدور دورتها المقدورة لها، كما يقول سبحانه: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [53: الشورى].
وقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} اختلفت الأقوال في هذا اليوم، وهل هو يوم القيامة، أم هو يوم من أيام اللّه في هذه الدنيا.
واليوم، هو وحدة من وحدات الزمن عند الناس، في هذه الدنيا، وهو محدود بأربع وعشرين ساعة، تدور فيها الأرض دورة كاملة حول الشمس، من الغرب إلى الشرق.
وقد ورد في القرآن الكريم موازنة بين أيام الدنيا هذه، وأيام أخرى عند اللّه، فكان من تلك الأيام ما يوازى ألف سنة من أيام دنيانا، كما يقول اللّه تعالى في هذه الآية، وكما يقول جل شأنه في آية أخرى:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [47: الحج].
وجاء في موضع آخر من القرآن الكريم، أن من الأيام عند اللّه ما يعدل خمسين ألف سنة من أيامنا.. كما يقول سبحانه: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [4: المعارج].. وهناك أيام تعدل ما لا حصر له من أيامنا في دنيانا تلك.
والذي نطمئن إليه في تأويل هذا اليوم الذي مقداره ألف سنة، واليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة- هو أن هذين اليومين يوقّتان دورتين من دورات الأجرام السماوية في أفلاكها، وأن اليوم الذي مقداره ألف سنة من أيام الأرض، هو يوم كوكب من الكواكب السماوية، حيث تتم دورته في فلكه في ألف سنة.. ويمكن أن يكون هذا الكوكب في السماء الدنيا.
ويكون في الحديث عن هذا الكوكب، أو عن يومه وطوله بالنسبة ليوم الأرض- إشارة إلى قصر الحياة على هذه الأرض، ومع هذا، فإن الناس يستعجلون مقامهم فيها، ويستحثون مطاياهم للارتحال عنها: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}.
وإذا كان في الكواكب ما يتمّ دورته في يوم. مثل فلك الأرض، وكان فيها ما يتم دورته في ألف سنة، مثل كثير من الكواكب- فإن هناك من الكواكب ما يتم في دورته في خمسين ألف سنة.. وهناك ما يتم دورة في آلاف آلاف من السنين.
فهناك أيام كثيرة في علم اللّه، لدورات الكواكب والنجوم المبثوثة في ملك اللّه.. ولعل هذا هو السرّ في تنكير {يوم} في المواضع الثلاث التي جاء فيها تحديد الزمن اليومي، بألف سنة، وبخمسين ألف سنة.. فكل يوم منها، هو بعض أيام اللّه، فللّه سبحانه أيام لا تحصى في النظام الذي أقام عليه حركات الكواكب والنجوم، التي لا يعلمها إلا اللّه.
قوله تعالى: {ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
الإشارة هنا إلى الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة من أيام دنيانا وهو اللّه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي ذلك المشار إلى قدرته في تدبير الأمور، هو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الرحيم وقدم علم الغيب على الشهادة، للإشارة إلى أن علم اللّه علم مطلق، لا تحدّه حدود، فيستوى لديه القريب والبعيد، والظاهر والخفىّ، إذ لا قرب وبعد، ولا خفاء وظهور.. لأن ذلك إنما يكون بالإضافة إلى العلم القاصر المحدود، الذي يتناول شيئا ويقصر عن شىء.. أما العلم الكامل المطلق، فحقائق الأشياء كلها واقعة في دائرة هذا العلم كحقيقة واحدة!.
وفي وصف اللّه سبحانه بالعزة والرحمة، إشارة إلى أن عزته سبحانه وتعالى، عزة رحمة وإحسان، وليست عزة تسلط وقهر، فإن من شأن العزة القهر والجبروت، وفي المثل: من عزّ بزّ وتعالت عزة العزيز الحكيم عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ}.
أي أن من عزة اللّه ورحمته قيام هذا الوجود على أحسن نظام، وأكمله.
والمراد بالحسن هنا ليس مجرد حسن السورة، وإنما هو الحسن الذي يتجلى في إحكام الصنعة، ودقة التنسيق، وروعة التأليف، وتجاوب النغم، ووحدة الغاية، وإن اختلفت الاتجاهات، وتعددت الأنغام.. {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ}.
فدبيب النملة على مسارها، وجريان الشمس في فلكها، وتدفق النهر في مجراه، وحفيف الأوراق على أشجارها، وكل همسة، وكل حركة في هذا الوجود، في أرضه وسماواته، تؤلّف جميعها لحنا علوىّ النعم، يروع القلب جلاله، ويأسر الفؤاد حسنه وجماله.. سواء أنظر الإنسان إليها في اجتماعها أو افتراقها، وسواء استعرضها على تفصيلها أو إحمالها.
وفي قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ} إلفات إلى وحدة من وحدات هذا الخلق، وإشارة إلى مواطن هذا الحسن منه، وهو خلق الإنسان من طين.
ففى هذا الطين الذي قد تنبو عنه العين، ويتحاشاه النظر حسن رائع، وجلال مهيب، إذا استطاع الناظر أن ينفذ إلى ما وراء هذا الظاهر الذي يراه، وأن يتجاوز هذه القشرة السوداء المعتمة من الطين.. فإن وراء هذه القشرة، عالما يموج بألوان زاخرة، زاهية من الحياة.. فما هذه الأناسىّ التي تتحرك على ظهر الأرض، وتملأ الحياة حركة وعمرانا، إلا بعض هذا الطين الذي نمشى عليه، وننطلق فوقه!!.. وإذا عجز إدراك الإنسان عن أن يرى في مرآة هذا الطين صورته، ويعرف الرّحم الذي تفتق عنه، فلينظر في وجوه الأرض، وما عليها من ألوان الزهر، وأصناف الشجر، وأنواع الثمر.. {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [4: الرعد].
فهذا الطين، ليس في عين ذوى البصائر طينا، جامدا، صامتا، كئيبا، وإنما هو الجمال كله، والحسن كله، تفتقت عنه- بقدرة العزيز الرحيم- هذه الحياة المتدفقة من إنسان، وحيوان، ونبات! فبدء خلق الإنسان من طين، هو نقطة الابتداء، التي يبدأ العقل مسيرته منها، إلى حيث يلتقى بالإنسان في أكمل صورته، وأعظم مواقفه.. وعندئذ يرى كيف تدبير اللّه، وقدرته، وكيف علمه، وإحسانه، ورحمته.. فما أبعد ما بين الطين والإنسان، في عين من لا يحسن النظر، ويمعن التفكير، وما أقرب ما بين الطين والإنسان، في عين من ينظر، فيحسن النظر بعقله وبقلبه جميعا.. فمن هذا الطين، كان الأنبياء والرسل، والقادة، والمصلحون، والعباقرة.. ومن هذا الطين كانت تلك الشموس المضيئة التي زينت الأرض كما زينت الكواكب والنجوم وجه السماء!
قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ}.
وهذه لفتة أخرى إلى قدرة العزيز الرحيم، يرى فيها الإنسان نفسه، لا في هذا الطين، الذي ربما كانت كثافته حائلا بينه وبين نظره الكليل أن يرى وجوده فيه.. فهناك النطفة، التي يعلم الإنسان- كل إنسان- عن يقين أنه ثمرتها، وأنها البذرة التي جاء منها.. فأين تلك النطفة.. من هذا الإنسان؟
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ}.
(5- 7 الطارق).
وفي وصف النطفة بأنها ماء مهين، إشارة إلى أنها شيء رخيص مبتذل، لا يرى فيها الإنسان شيئا ذابال، فما هى إلا ماء مستقذر.. هكذا يبدو في ظاهر الأمر.. ولكن إذا نظر إليه نظرا متأملا متفحصا، رأى أنه هو هذا الإنسان، قد أجمل في هذه القطرة من الماء! ثم فصّل فكان هذا الخلق السّوىّ، الذي توّج بتاج الخلافة من اللّه على هذه الأرض! قوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ}.
وهذه أيضا لفتة أخرى، يرى فيها الناظر إلى الإنسان في مسيرته من النطفة إلى الوجود البشرى- يرى كيف تحركت هذه النطفة، وكيف نمت كما ينمو النبات، حتى إذا بلغت في رحم الأمّ مرحلة محددة، نفخ فيها الخالق من روحه، فبعث فيها الحياة، حتى إذا تم نضجها، دفع بها الرحم إلى هذه الدنيا، قطعة من لحم، مصورة في هيئة بشر، لا سمع، ولا بصر، ولا إدراك.. ثم لا يلبث هذا الوليد حتى يكون له السمع والبصر والإدراك.. وإذا هو هذا الإنسان، كما هو في كل موقع من مواقع الحياة.
وقدّم السمع على البصر، لأنه أسبق من البصر ظهورا في الكائن الحي بعد الميلاد، حيث تبدأ وظيفة السمع في كيان الطفل، قبل أن يبدأ البصر في أداء وظيفته- وهذا من إعجاز القرآن، الذي كشف عنه العلم- ثم يجىء بعد هذا دور الوعى والإدراك! وفي إفراد السمع، وجمع البصر، والفؤاد، إشارة إلى أن معطيات السمع تكاد تكون واحدة عند الناس جميعا، وذلك على خلاف البصر، الذي يختلف من إنسان إلى إنسان، حيث يكون النظر عند بعض الناس مجرد عين ترى الأشياء رؤية حيوانية لا تتجاوز ظاهر المرئيات، على حين يكون النظر عند بعض آخر بصيرة نافذة، تبلغ الأعماق، وتصل إلى اللباب.. وكذلك الشأن في الفؤاد، وهو موطن المدركات! وذلك أظهر من أن يكشف عنه.
وقوله تعالى: {قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} أي قليل منكم من يعرف للّه قدره، ويذكر له إحسانه وفضله، فيؤدى الشكر للّه، إيمانا به، وإفرادا له بالألوهة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ] قوله تعالى: {وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ}.
الضلال في الأرض: الضّياع، والفناء في ترابها.. وذلك بما يحدث للأجساد بعد الموت من تحلل وفناء.
والحديث هنا عن المشركين، الذين ينكرون البعث، ويرون أن انحلال أجسادهم بعد الموت، وتحولهم إلى تراب من تراب الأرض، يجعل من المستحيل أن يعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه، إذ ما أبعد ما بين هذه الأجساد التي أبلاها البلى، وبين الحال التي ستصبح عليها لو صحّ أنهم سيبعثون.
ولو أنهم نظروا إلى ما دعاهم اللّه سبحانه وتعالى إليه، من النظر في قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ}.
وفي قوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} لوجدوا أن لا فرق بين هذا التراب الذي جاءوا منه، أو تلك النطفة التي تخلقوا منها، وبين هذا التراب الذي صارت إليه أجسادهم.. بل إن في أجسادهم الغائبة تحت التراب، إشارات تشير إليهم، وتاريخا يحدث عنهم! إنهم- وهم في التراب- أشبه بغائب ترجى له عودة، وهم لم يكونوا من قبل شيئا! وشىء يعود إلى أصله، أقرب في التصور من توقع وجود شيء من عدم!- وفي قوله تعالى: {بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ} إشارة إلى أن هؤلاء المشركين على ضلال في حياتهم الدنيا.. قد فتنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، وأطلقوا لهواهم العنان يذهب بهم كلّ مذهب.. وهذا ما أوقع في تفكيرهم أن لا حياة بعد الموت، وأن لا حساب ولا جزاء... لأن ذلك يعنى أن يعملوا حسابا لهذا الحساب، وأن يتخففوا كثيرا مما هم فيه من ضلال، وأن يستبقوا من يومهم شيئا لما بعد هذا اليوم.. وإنه ليس لهم إلى ذلك من سبيل، وقد غلبتهم أهواؤهم، واستولت عليهم دنياهم.. وإذن فلا يوم بعد هذا اليوم، ولا حياة بعد هذه الحياة.. إنهم- والحال كذلك أشبه بالجند في ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، حتى الصباح، ينفقون فيها كل ما معهم.. ثم ليكن في الغد ما يكون!!
قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}.
توفية الشيء: استيفاؤه وأخذه كاملا وافيا، وعبّر عن الموت بالتوفى، لأنه لا يكون الموت حتى يستوفى الحىّ ما قدر اللّه له من حياة، دون زيادة أو نقصان.
وفي قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} إشارة إلى أن الموت الذي يحلّ بهم، ليس أمرا يقع من تلقاء نفسه، اعتباطا، كما يظنون وكما يقول شاعرهم:
رأيت المنايا خبط عشواء من *** تصب تمته ومن تخطىء يعمّر فيهرم
وكلّا، فإن الموت بيد اللّه الحكيم العليم، الذي جعل لكل نفس أجلا محدودا، فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.. ثم إن الموت يقوم به رسول من رسل اللّه، مهمته هى قبض الأرواح من الأجساد، بعد أن تستوفى أجلها.. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذي إليه الموت، له أيضا الحياة قبل الموت، وبعد الموت.. فمن أعطى الحياة، ثم سلبها، لا يعجز أن يعطى ما سلب! {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28: البقرة].


{وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}.
هذا عرض لحال من أحوال المشركين والضالين، يوم القيامة، وما يلقون من ذلة وهوان، وما يذوقون من بلاء وعذاب.
وهم في هذا الموقف، قد سيقوا إلى ساحة الحساب بين يدى اللّه سبحانه وتعالى، وقد نكست رءوسهم ذلة وخزيا، وخضعت أعناقهم همّا وغمّا، يضرعون إلى اللّه أن يردوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى، ليصلحوا ما أفسدوا، وليستقيموا على طريق الحق والهدى، بعد أن أبصروا من عمى، وسمعوا من صمم، وشهدوا الحق الذي أنكروه، وعاينوا البعث الذي كفروا به، وأيقنوا أنهم كانوا في ضلال مبين.
وفي هذا الاستفهام فضح لهؤلاء المجرمين، واستدعاء لكل ذى نظر أن يشهدهم وهم على موقف الهوان، وفي ثياب الذلة والصغار، وهم كانوا السادة الذين ورمت أنوفهم كبرا، وصعّرت خدودهم تيها وعجبا! وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها.. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
هو ردّ ضمنى على ما طلب المجرمون من أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى.
والمعنى: أن الهدى بيد اللّه، وفي قيد مشيئته.. وأنه سبحانه لو شاء لهدى الناس جميعا، ولكنه سبحانه جعل للجنة أهلها ولها يعملون، وجعل للنار أهلها ولها يعملون.. وأن مما قضى اللّه به في خلقه أن يملأ النار ويعمرها بمن جعلهم من أهلها، من الجنة والناس! وأن هؤلاء المجرمين الذين رأوا مشاهد القيامة، وعاينوا أهوالها، وتمنوا العودة إلى الدنيا، ليستقيموا على طريق الحق والهدى- هؤلاء المجرمون، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، ولركبوا نفس الطريق الذي كانوا عليه من قبل، ولماتوا على الكفر والضلال، ولكانوا في أصحاب النار، وذلك لأن قضاء اللّه فيهم قد سبق، وأنهم لن يخرجوا عما قضى اللّه فيهم! ويسأل سائل: لما ذا إذن كانت دعوات الرسل؟ ولما ذا إذن كان العمل؟
وكان الإيمان والكفر؟ لم هذا، وقد سبق القضاء، ونزل كل إنسان منزله من الجنة والنار منذ الأزل؟ والجواب على هذا، قد عرضنا له في مبحث خاص من هذا التفسير، تحت عنوان: مشيئة اللّه ومشيئة العباد.
وفي كلمة موجزة نقول: إن للّه قضاء سابقا في خلقه- هذا حقّ.. فللجنة أهلها، وللنار أهلها، ولن يتحول إنسان أبدا عما أراد اللّه له.. ولكن- مع هذا- فإن هذا القضاء محجوب عن الناس، فلا يدرى أحد أهو من هذا من الفريق أو ذاك، وذلك مما قضت به حكمة اللّه، حتى يظل باب العمل مفتوحا لكل عامل.. فهناك طريقان: طريق الإيمان، والهدى، وطريق الكفر والضلال.
والأول موصّل إلى الجنة، والآخر منته إلى النار.. والإنسان مخيّر في اختيار أحد الطريقين.. هكذا يبدو الأمر في ظاهره، فلا قسر ولا قهر، وإن كان للّه الأمر كله.. فمن كان من أهل الجنة، يسّره اللّه لها، ومن كان من أهل النار أخلى اللّه طريقه إليها.. وكلّ ميسّر لما خلق له! ولا تسأل بعد هذا: لم اختار اللّه هذا الفريق للجنة، واختار ذاك الفريق للنار؟ إنه خلقهم، لم يشاركه أحد في الخلق، وإنه أقامهم حيث أقامهم، فلا اعتراض على المالك في تصرفه فيما ملك..!
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [2: التغابن].
قوله تعالى: {فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو ردّ مباشر على هؤلاء المجرمين، بعد أن تلقوا الرد الضمنى في الآية السابقة، وأنهم من أصحاب النار، ولن يعدل بهم عنها عودتهم إلى الدنيا مرة ومرة ومرات.. فليخسئوا، وليذوقوا عذاب السعير.. إنهم من أصحاب النار.
وفي قوله تعالى: {بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} الباء للسببية، أي ذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم هذا اليوم، وكفركم به! وقد عبّر عن كفرهم، بيوم القيامة بالنسيان، ليكشف عن مدى استخفافهم به، وإخلاء أنفسهم من كل شعور يصل بينهم وبينه.
وقوله تعالى: {إِنَّا نَسِيناكُمْ} هو على سبيل المجازاة.. وأنهم كما استخفّوا بهذا اليوم، فقد استخفّ اللّه بهم، ولم ينظر إليهم بعين الرحمة.
فهم باقون في هذه النار لا يخرجون منها، حتى لكأنهم قد نسوا فيها.. كما يقول اللّه سبحانه: {كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى} [126: طه].
قوله تعالى: {إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.
هو أيضا ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين لا يؤمنون بآيات اللّه أبدا.
لأنهم على غير صفات أهل الإيمان.. فأهل الإيمان إذا ذكّروا بآيات اللّه، تفتحت لها قلوبهم، واستنارت بها بصائرهم، فعرفوا ربهم، وانقادوا لجلاله وعظمته، وخشعوا لعزته وجبروته، وسجدوا مع الساجدين، وسبحوا بحمده مع المسبحين، في ولاء لا يطوف به كبر، وفي خضوع لا يخالطه استعلاء! قوله تعالى: {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}.
ومن صفات المؤمنين، أنهم مشغولون بذكر اللّه، لا ينامون إذا نام الناس، كما يقول اللّه: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [17- 19 الذاريات].
وقوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} هو حال من أحوال هؤلاء المؤمنين، الذين يهجرون مضاجعهم ليذكروا اللّه، ويدعوه، خائفين من عذابه، طامعين في رحمته.
وقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} هو حال من أحوالهم أيضا، وهو أنهم إذ يقومون بحق اللّه عليهم في أنفسهم، عبادة، وصلاة، ودعاء، فإنهم يقومون بحقه تعالى عليهم في أموالهم، بذلا، وإحسانا في كل وجه من وجوه الخير والبر.
قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
فى هذا التجهيل لنعيم الجنة الذي أعده اللّه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين- إطلاق له من القيود والحدود، فهو نعيم مطلق، بلا حدود ولا قيود، فيه كل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين.. كما في الحديث القدسي: «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه».
وفي قوله تعالى: {ما أُخْفِيَ لَهُمْ} إشارة إلى أن هذا النعيم، لا يخطر على بالهم، ولا يقع في تصورهم، لأنه مما لا شبيه له، فيما يعرف الناس من نعيم الدنيا.. فهو- والحال كذلك-.. أشبه بالشيء الخفي، الذي لا تعلم حقيقته.
وقوله تعالى: {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
أي مما تسر به العين، وترتاح له، وتجد فيه أنسها وحبورها.. وخصّت العيون بهذا، لأنها هى المرآة التي تتجلى على صفحتها مشاعر الإنسان، وترتسم على نظرتها خلجاته وخطراته.. من فرح أو حزن، ومن حب أو بغض، ومن رضا أو سخط.. ولهذا فإنه قد كان للناس نظر بالعيون إلى العيون، وحديث من العيون إلى العيون.
وكان للعيون لغة أبلغ من لغة الكلام، وكان لهذه اللغة علماؤها، وأصحاب القدم الراسخة فيها، عطاء وأخذا، وإرسالا واستقبالا.
وفي الشعر العربي ما يكشف عن هذه الحقيقة من أمر العيون، وما تنفث من سحر البيان والدلال معا.. يقول الشاعر:
والعين تعلم من عينى محدّثها *** إن كان من أهلها أو من أعاديها
ويقول آخر:
إذا كاتمونا الهوى نمّت عيونهم *** والعين تظهر ما في القلب أو تصف
ويقول ثالث:
ومراقبين تكاتما بهواهما *** جعلا القلوب لما تجنّ قبورا
يتلاحظان تلاحظا فكأنما *** يتناسخان من العيون سطورا
وهكذا تحدّث العيون عما تطوى النفوس من خير أو شر، يقول السيد المسيح: سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيّرا، وإن كانت عينك شريرة، فجسدك كله يكون مظلما.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟.. لا يَسْتَوُونَ}.
هو تعقيب على الآيات السابقة، التي كشفت عن وجوه المجرمين، وساقتهم إلى موارد الهلاك والبلاء، كما كشفت عن وجوه المؤمنين، وأرتهم ما أعدّ لهم من نعيم ورضوان.. ثم هو تمهيد لما ستكشفه الآيات التالية بعد هذا، من موقف الفريقين، ومن الجزاء الذي يلقاه كل فريق.
والاستفهام هنا يراد به النفي.. ولهذا جاء جوابه منفيا.
وفي الاستفهام من توضيح الحكم وتأكيده، ما ليس في الخبر التقريرىّ، الذي يجىء بالحكم صريحا مواجها، يلقى به إلقاء، على سبيل الإلزام والتحكم!.
ففى الأسلوب الاستفهامى، دعوة إلى العقل أن ينظر في هذه القضية، وأن يشارك في الحكم المناسب لها، وفي البحث عن الحيثيات التي تدعم هذا الحكم وتسنده.
{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟}.
هذه هى القضية.
فماذا يؤدّى إليه النظر فيها؟ ولأى طرفى الخصومة فيها يحكم العقل؟
أهما على سواء، فلا فاضل ولا مفضول؟ ذلك بعيد.. إذ لو كانا على حال واحدة من جميع الوجوه، لكانا شيئا واحدا، ولم يكونا شيئين متقابلين.
وإذ كان الأمر كذلك، فهما غير متساويين.
هذه بديهة لا تحتاج إلى كثير من النظر.. ولهذا جاء قوله تعالى:
{لا يَسْتَوُونَ} جوابا مطلقا، على هذه البديهة.. إنهما غير متساويين.
هذا ما لا سبيل إلى المماراة أو الخلاف فيه.
فالمؤمن غير الفاسق.. والفاسق غير المؤمن.. وإذ كانا غيرين، فهما غير متساويين.. ويبقى بعد هذا، الفصل في أىّ من هذين غير المتساويين أرجح كفة، وأثقل ميزانا؟.
قد يرى أهل الضلال أن الفاسق أرجح ميزانا، وأهدى سبيلا من المؤمن.. فليكن ذلك حكمهم.. أما الحكم الحق والقضاء الفصل، فهو هذا الذي سمعوه من قبل إن كانوا قد سمعوا وعقلوا، وهو هذا الذي يسمعونه الآن، إن كانوا يسمعون أو يعقلون.
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
هذا هو الحكم الفصل، فيما بين المؤمن والفاسق.
ويلاحظ أن القرآن لم يأت بالحكم صريحا، ولم يقل إن المؤمن خير من الفاسق.. ولكنه جاء بفحوى هذا الحكم وبالآثار المترتبة عليه.. ثم ليكن الحكم على هذه الآثار، التي هى أظهر من أن تختفى التفرقة بينهما على ذى مسكة من عقل.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم جنات {المأوى} أي السكن والاستقرار {نزلا} أي منزلا كريما يأوون إليه، وينزلونه، حيث يجدون فيه الحياة الطيبة الهنيئة: {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} من أعمال طيبة، في هدى من الإيمان باللّه، وعلى نور من شريعة اللّه.
وأما الذين {فسقوا} أي خرجوا عن طريق الإيمان، وركبوا طرق الضلال، {فَمَأْواهُمُ النَّارُ}.
تلك هى دارهم، وهذا هو نزلهم.
{كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها} فرارا من وطأة العذاب {أُعِيدُوا فِيها} وردّوا إليها، وحيل بينهم وبين ما يشتهون.. {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
فهم لا يردون إلى النار وحسب، بل يلقاهم مع هذا الرد من يسمعهم ما يسوءهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا، فيقول لهم:
{ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
إنما يذوقون عذاب النار فعلا، ولكن الحديث إليهم بما يسوءهم، وقرع أسماعهم بهذا المكروه- هو مضاعفة للبلاء، ومزاوجة بين المكروه والمكروه، كما أن للحديث عن المحبوب لذة في السمع، ووقعا في القلب، إلى ما له من لذة في مرأى العين، ومذاق اللسان.. وقد كشف أبو نواس عن هذا، فيما يجد من لذة وانتشاء، عند سماع كلمة الخمر وهو يشربها، إلى ما يجد لها من مذاقها على لسانه، ومن دبيبها في مفاصله، حتى يمتع حواسه كلها.. فيقول:
ألا فاسقنى خمرا وقل لى هى الخمر ولا تسقنى سرّا متى أمكن الجهر!
وأبو نواس، وإن كان هنا على إثم، فإنه يلذ طعم اسم هذا الإثم ويستمرئه.
ولو كان في هذا الموقف غيره، ممن يتأثمون هذا الإثم، ثم يكرهون إكراها على تعاطيه، فإن ذكر الخمر باسمها عند صبّها في أفواههم، هو عندهم بلاء إلى بلاء، وعذاب فوق عذاب!
قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} العذاب الأدنى: هو العذاب القريب في زمنه، القليل في آثاره، بالنسبة إلى العذاب الأكبر.. والمراد بهذا العذاب الأدنى هو ما يلقاهم في دنياهم من خزى وخذلان، على يد المؤمنين، وذلك بما يصابون به من قتل وأسر في ميدان القتال، وما يجدون في أنفسهم من وقدة الحسد، لما يفتح اللّه به على المؤمنين من أبواب رحمته، وبما يمكّن لهم في الأرض.
والعذاب الأكبر: هو عذاب يوم القيامة.
وقوله تعالى: {دُونَ} أي قبل.
وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إشارة إلى أن هذا العذاب الذي يقع للمشركين، الفاسقين، في هذه الدنيا، قد يكون لبعضهم فيه عبرة وموعظة، فيرجع عن غيه وضلاله.. وهذا هو بعض السر في تصدير هذا الحكم بحرف الرجاء {لعل}.


{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها.. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}.
المراد بالاستفهام هنا النفي.. أي أنه لا أحد أكثر ظلما من ذلك الذي تعرض عليه آيات اللّه ليهتدى بها، ثم يعرض عنها.
وفي قوله تعالى: {ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ} إشارة إلى أن آيات اللّه التي يتلوها الرسول على الناس إنما هى لتذكرهم بما نسوه من الإيمان الذي كان في فطرتهم.
فلما أهملوا فطرتهم، وأفسدوها بما ساقوا إليها من آفات الهوى والضلال، لم يعودوا يذكرون شيئا من هذا الإيمان، فكانت بعثة الرسول بآيات اللّه يتلوها عليهم تذكيرا لهم، بأصل فطرتهم، وإيقاظا لهم من غفلتهم.. ومن أجل هذا، فقد كانوا أظلم الظالمين، لأنهم ظلموا أنفسهم مرتين، ظلموها أولا بإطفاء جذوة الإيمان التي أودعها اللّه فطرتهم، وظلموا أنفسهم ثانيا، إذ أبوا أن يستجيبوا لمن يدعوهم إلى تعاطى الدواء الذي يشفى هذا الداء الذي مكنوه منهم، فأفسد فطرتهم.
وفي قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}.
هو تهديد ووعيد لهؤلاء المعرضين عن آيات اللّه، وأنهم في معرض الانتقام من اللّه، لأنهم مجرمون، ظالمون.. مجرمون في حق أنفسهم، ظالمون بإعراضهم عن الخير الممدود إليهم.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد ذكرت- ضمنا- القرآن الكريم، الذي أعرض عنه الظالمون الذين ذكروا به.. فناسب أن يذكر موسى في هذا المقام، إذ كان مع موسى آيات ظاهرة محسوسة، وكانت تلك الآيات مما يشغب بها المشاغبون من المشركين، على النبي، ولا يقبلون منه آيات كلامية يتلوها عليهم، ويقولون مكذبين النبي، ومتحدين له: {لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى؟}.
وقد رد اللّه عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ}.
(48: القصص) وبقوله سبحانه: {وَكُذِّبَ مُوسى} [44: الحج].
ثم إنه مع هذه الآيات الظاهرة المحسوسة، قد جاء موسى بكتاب من عند اللّه، هو التوراة، وبهذا الكتاب دان اليهود الذين يعرفهم أولئك المشركون، ويقولون: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ}.
(157: الأنعام).
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ} خطابا للنبىّ، ويكون الضمير في قوله تعالى: {مِنْ لِقائِهِ} مرادا به القرآن الكريم المذكور ضمنا في الآية السابقة.
والخطاب إلى النبىّ، هو إلفات للمشركين إلى القرآن الكريم، وإلى هذا الشك والافتراء الذي يدور في رءوسهم منه.. إنه كتاب من عند اللّه، مثل الكتاب الذي جاء به موسى، والذي كانوا يتمنّون أن يكون لهم كتاب مثله.
وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ}.
تحريض للمشركين على أن يقبلوا على الكتاب الذي جاءهم من عند اللّه، ويهتدوا به.. فهذا الكتاب هو كتابهم، وهو الهدى الذي يهتدون به، كما كان كتاب موسى كتابا لبنى إسرائيل، ومعلم الهدى الذي يهتدون به.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}.
هو تحريض بعد تحريض للعرب، من مشركين ومؤمنين، أن يلوذوا بحمى هذا الكتاب، الذي أنزله اللّه بلسانهم، وجعلهم مستفتح دعوتهم إلى دين اللّه.. فإنهم إن فعلوا، واستجابوا لدعوة اللّه، وآمنوا به، وصبروا على ما يلقون على طريق الإيمان من ضر وأذى- جعل اللّه منهم أئمة يدعون إلى الهدى، ويقومون في الناس مقام الأنبياء.
فالحديث هنا خبر عن بنى إسرائيل، يراد به سوق العبرة والعظة إلى المشركين.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
هو إجابة عن سؤال يعرض لمن يستمع إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا}.
وهذا السؤال هو: وهل اهتدى بنو إسرائيل بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى؟ وهل كان منهم أئمة هداة؟ وكيف يكون هذا وهم على ما يشهد الناس منهم من خلاف فيما بينهم- ثم ما سيشهدون من خلاف بينهم وبين النبي؟ وكيف يصح أن يكون الكتاب الذي جاء به موسى، لا يلتقى مع الكتاب الذي جاء به محمد، وكلا الكتابين من عند اللّه؟.
فكان قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} جوابا على هذه التساؤلات.. ثم هو إعلام بما سيكون من اليهود من كفر وضلال، حين يواجههم النبي بالقرآن الكريم، ويدعوهم إلى تصديقه، والإيمان به.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ}.
الحديث هنا إلى المشركين، حديث مواجه مباشر، بعد أن كان الحديث إليهم في الآيات السابقة حديثا من وراء حجاب، هو اليهود.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} استفهام إنكارى، ينكر على المشركين أنهم لم يروا فيما بين أيديهم من ديار الأقوام الظالمين قبلهم، وما اشتمل عليها من خراب- ما تحدّث به هذه الديار من عبر، وما تنطق به من عظات! وإنهم لو عقلوا لعلموا أنهم مأخوذون بما أخذ به أصحاب هذه الديار، ماداموا سائرين على طريقهم، آخذين مأخذهم.
وفي قوله تعالى: {يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ} إشارة إلى أنهم قد خلفوا هؤلاء الظالمين أصحاب تلك الديار، وورثوا ما كانوا عليه من كفر وضلال.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن السمع طريق من طرق الاهتداء.. سواء كان هذا المسموع من كلمات اللّه، أو من الأخبار الصحيحة والعظات النافعة.. فالكلمة الطيبة، إذا تلقتها أذن واعية، واستقبلها قلب سليم، أينعت، وأثمرت، كما تينع وتثمر البذرة الطيبة، في الأرض الطيبة.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ}.
الأرض الجرز: أي الجديب، التي لا نبات فيها.
وتلك آية من آيات اللّه، تتملاها العين، فترى فيها قدرة اللّه، كما ترى فضله وإحسانه.
فهذا الماء الذي يسوقه اللّه تعالى محمولا على أجنحة السحاب، فينزل في الأرض الجديب، ويحيى مواتها، ويخرج من صدرها حبا ونباتا، وجنات ألفافا، تحيا عليها الأنعام، ويعيش فيها الناس- في هذا عبرة لمعتبر، وذكرى لمن يتذكر.
وقدمت الأنعام على أصحاب الأنعام، دلالة على أنه ليس للناس شيء في تقدير هذا الرزق الذي يسوقه اللّه إليهم وإلى أنعامهم.. وإنما هو من عند اللّه، وأن الأنعام والناس سواء في الاحتياج إلى اللّه، وأنهم إنما يرزقون كما ترزق الأنعام.. {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} [6: هود].
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
الفتح: الفصل فيما بين النبي وبين المشركين من خلاف، فيما يدعون إليه من حق، وفيما هم فيه من باطل.
والاستفهام من المشركين، استهزاء، وتكذيب واتهام.. إنهم لا يؤمنون بأن هناك حسابا، ولا جزاء.
قوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} وقد جاء الجواب بما لا ينتظره السائلون.
إنهم كانوا لا ينتظرون جوابا.. وإذا كان ثمة جواب فليكن مؤقتا بالوقت الذي يقع فيه ما أنذروا به.. متى هو؟
ولم يجب القرآن على: {متى هو؟} وإنما أجاب على: كيف هو؟ وعلى أية صورة يقع؟ أما وقوعه فهو أمر لا شك فيه.
وأما الصورة التي يقع عليها، فإنها بلاء على المشركين، يوم يقفون وجها لوجه بين يدى هذا اليوم للحساب والجزاء.. حيث لا يقبل منهم إيمان في هذا اليوم، ولا يؤخر حسابهم ليوم آخر، حتى يصلحوا ما أفسدوا.
{ولا هم ينظرون} فقد انتهى أجلهم، وطويت صحف أعمالهم، على ما ضمّت عليه من كفر وضلال.
قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ.. إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}.
بهذه الآية تختم السورة.. وبهذا الأمر القاطع ينحسم الموقف بين النبي وأهل الشرك من قومه.. إنه بلغ رسالة ربه، وبالغ في إبلاغها.
مبشرا ومنذرا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وضلالا.. وإذن فليطو النبي كتابه، وليعرض عنهم، فلا يأبه لسفهائهم، ولا يقف عند ما يلقون إليه من أذى، كما يقول سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [199: الأعراف] ثم لينتظر حكم اللّه، وما يقضى به بينه وبينهم، ولا يعجل، فإنهم منتظرون، لا يملكون التحول عما يريد اللّه فيهم.